Friday 6 October 2017

فتش عن الرجل (4) عهد جديد



عهد جديد

جرب أن تهجرنى و لن ترانى مرة أخرى، و ليس للقسوة دخل فى ذلك، بل لأنى انسان تعوَّد الفقد، و تعلمت ألا أنظر خلفى مهما كان الثمن.

و بالنسبة لى ما راح كأن لم يكن.

هكذا استطعت الصمود.

نهى حجاج

 

انتبهت "مها" لرنين هاتفها الخلوى بعد أن كانت مستغرقة فى سماع أغنية أنغام "بتوصفنى.. بتكسفنى" و هى فى حالة من الانسجام التام و الحنين إلى شئ لا تعرفه. كان المتصل صديقها "أشرف". "أشرف" ليس صديقا عاديا، فهو يكبر "مها" بما يقرب من الثلاثين عاما و لديه اهتمامات مختلفة و من يراهما يكاد يجزم أنهما من عالمين مختلفين تماما. تعرفت "مها" على "أشرف" عندما ذهبت ذات مرة لتصطحب صديقتها " يمنى" من مقر عملها لتذهبا للتسوق. كان "أشرف" هو مدير "يمنى" و صاحب الشركة التى تعمل بها؛ و كان من الطبيعى أن يتردد على مكتبها أثناء العمل بشركة الاستيراد و التصدير التي أنشأها منذ عدة سنوات. كانت "يمنى" تعمل سكرتيرة له و يساعدها أوفيس بوى صغير السن يدعى "ابراهيم". يومها التقيا فى مكتب "يمنى" و منذ تلك المرة أحست "مها" أن "أشرف" لن يكون مجرد شخص قابلته؛ وهو أيضا كان لديه نفس الشعور. كما قلنا كان أشرف يكبر "مها" بسنوات عدة و لكنه مع ذلك لم يشعرها بهذا الفارق. كان يفعل ذلك مع كل فتاة و امرأة جميلة يقابلها، فقلبه قلب شاب خالد لا يشيخ أبدا. و هذا ما قاله لـ"مها" فيما بعد حين توطدت صداقتهما.  نعم صداقة! فى مخيلة "مها" لم يكن أشرف فتى الأحلام، ليس بسبب فارق السن و لكن لأنها باتت تعرف أنه كما نقول بلغة العصر "حبِّيب" و لا يستقر قلبه على واحدة أبدا. و كان دليل "مها" على ذلك أن "أشرف" بالفعل متزوج و لديه ثلاثة أبناء من زوجته التي أحب قبلها وبعدها العديد من النساء.

 "مها" لا تقبل بأى حال من الأحوال أن يكون حبيبها غير مخلص لها، فلديها أفكارا بالية تتعلق بالإخلاص فى الحب و أن حبيبا ً واحدا يكفى. و تعلم أنها إن أحبت أخلصت؛ لذلك فمن حقها أن يبادلها حبيبها إخلاصا بإخلاص، ووفاءا بوفاء. كما أن "مها"  لم تقتنع يوما أن الوفاء صفة غريبة عن الرجال. هي التي قرأت "عنترة" و "قيس و ليلى" و "روميو و جولييت" و غيرها من قصص الغرام، لم تستبعد أن يكون هناك رجل واحد على الأقل فى ذلك الكون الفسيح لم يتلوث بأفكار مجتمعنا، بل أفكار جنسنا البشرى كله، التى تغري قلب الرجل أن يكون فندقا ملئ بالنزيلات، الدائمات منهن والعابرات. رومانسية؟ قطعا. غبية؟ إحتمال. لكن الأكيد أن تلك الأفكار هي سبب عزوفها عن الزواج حتى الآن بعد طلاقها. ربما تندم، و ربما تجد ما تحلم به!

لطالما أخبرها "أشرف" أن الزواج هو أسوأ نظام اجتماعى على وجه الأرض. و كانت تستمع إليه باهتمام لدقائق ثم لا تلبث أن تتذكر أنه هو نفسه متزوج. لقد دخل أكبرأبنائه الجامعة الآن و هو لايزال يردد تلك العبارة الغريبة عن الزواج. 

-        لماذا تزوجت إذن يا اشرف؟

-        كنت قاب قوسين أو أدنى من البقاء عازبا مدى الحياة.

-         !

-        لا تتعجبي. فقد كانت زوجتي الحالية هي آخر من التقيت بهن من بنات حواء فى سلسلة جواز الصالونات. لم أحبها من أول نظرة و لكنى كنت قد ارتحت لها و أعجبت بها من حيث الشكل. و لكن فرق السن بينى و بينها لم يكن صغيرا أبدا، فأنا أكبرها بخمسة عشر عاما. و حين شعرت بنظرتى الفاحصة كرجل أنها معجبة بشخصي، مع ترددها فى الوقت ذاته بخصوص فرق السن، تحدثت إليها بكل صراحة و قلت لها: " أريد أن أُعلِمك شيئا هاما جدا، قد لا تجدى فيه أى أهمية لديك، و لكنى أحب أن اخبرك به على آية حال. أنا أكبر فى السن يوما بعد يوم و ليس فى هذا ما يعيبني كرجل يريد الزواج؛ لكن الفرق فى العمر بينى و بين البنات اللاتى أراهن بغرض الزواج أصبح يتسع و يزيد بما يثير فى داخلى أنا شخصيا حالة من النفور و الإحباط. انا معجب بك و قد قررت ألا أرى بعدك أى عروس أخرى. فإن وافقتِ على ارتباطنا تزوجتك على الفور و إن لم تقبلى فسأظل عازبا ما بقيت، و قد حسمت الأمر بينى وبين نفسى وأترك لك القرار."

-        و ما الذي حدث بعدها يا "أشرف"؟

-        وافقت.. (أتبع رده بضحكة مدوية)

-        !

كيف سأَلَته "مها" ذلك السؤال الساذج؟ هي تعلم أنه متزوج من نفس المرأة التى يتكلم عنها. لماذا سألته إذن؟ ربما لأن داخلها كان يمقت حقيقة أن تلك المرأة قد تعرضت لضغط نفسى خفي، لم تدركه حينها عندما وافقت على الزواج من "أشرف" معتقدة أن ذلك كان قرارها! أو ربما لأن عقلها كان يرفض أن تقع تلك المرأة المسكينة فى شباك رجل تعلم تمام العلم أنه ليس بالإخلاص و الوفاء الذى يظهره لها! هل كانت زوجته تدرك ممن تتزوج؟ هل كانت تعلم و لو النذر اليسير عن مغامرات "أشرف" قبل أن تجمعهما الأقدار؟ أم هل أدركت ذلك بعد أن "وقع الفاس فى الراس"؟ لم تستبعد "مها" أن تكون الزوجة على علم بكل ما يفعله "أشرف"، أو اكتشفته بعد بضع سنوات من الزواج، و لكنها تريد فقط الحفاظ على الزيجة و البيت و الأسرة، شأنها فى ذلك شأن الكثير من النساء فى بلادنا. إنك لداهية خبيث يا "أشرف"، حين تريد الإيقاع بفريستك. ترمى لها الطعم و تجعلها تلقمه بمنتهى الأريحية؛ بل وتجعلها تتلذذه و مذاق دمها مختلط به. 

على الهاتف، بادر "أشرف" "مها" بسؤاله عن أحوالها و إن كان يستطيع التحدث إليها الآن أم فى وقت لاحق. ردت "مها" بترحاب و أخبرته أنها غير مشغولة و أنها كانت لا تفعل شيئا ذو أهمية وقت اتصاله بها. و من هنا انطلقت محادثتهما التى كانت دائما تتضمن كلاما عن أحوال البلد و السياسة و أحوال النساء و الرجال بشكل عام و الارتباط و الطلاق و قصص من الماضى. أكثرها يرويه "أشرف" صاحب المخزون الأكبر من الذكريات والتجارب بحكم فارق السن، وبعضها تحكيه "مها" فى شغف كى تسمع تعليق "أشرف" عليه. والأكيد فى نهاية كل مكالمة – و التى كانت تطول لساعتين أو أكثر- أن إنهاءها كان صعبا على كليهما.

على الرغم من ذلك،  لم تكن "مها" تحب "أشرف" فهو بالنسبة لها مجرد شخص حرك داخلها مشاعرا وأدتها فى مهدها حين علمت أنه رجل متزوج. لذلك قررت أن تتنسم معه الصداقة و الألفة التي لم تعد تجدها مع كثير من الناس فى محيطها، فقد انطوت "مها" على نفسها كثيرا بعد طلاقها. و لكنها الآن تتمنى زوجا مثله، يكون رفيقا ملهِما، و صديقا مُحبا لها مثلما هو الحال مع "أشرف". تمنت رجلا شغوفا و زوجا رؤوفا و أبا متفانيا، حتى و إن كان يلعب بذيله من وراء ظهرها؛ شرط أن يفعل ذلك دون درايتها و دون أن يعلم أحد.

أما أشرف فقد كان يتمنى أن يرتبط ب"مها" حتى و لو بشكل غير رسمى، فقد فعل ذلك مرارا قبل ذلك مع غيرها من النساء اللاتي أعجب بهن، و كان يريد أن ينال "مها" و لكنه يعرف أنه لن ينالها إلا بشكل يليق بشخصيتها المتفردة. إن "أشرف" زير نساء من العيار الثقيل، ذو وجاهة و دهاء. و فوق ذلك كما ذكرنا من قبل فهو "حبِّيب". المشاعر لديه أهم من الجسد، و إن كان الجسد جزء لا يتجزأ من تفكيره فى أى امرأة. تُرى، هل تخيل أن توافق "مها" أن تكون زوجة ثانية له في الخفاء؟ أو زوجة بعقد عرفى؟ أو عشيقة؟ هو يعرف جيدا أن "مها" تعتد بنفسها و أن رأسها يحوى عقلا غير عقل أغلب النساء اللاتى دخلن حياته، وأنها لن تقبل غير أن تكون سيدة قلبه الوحيدة. لعل ذلك ما جذبه لها منذ أول وهلة حين رآها فى الشركة وهى تزور "يمنى"!  على آية حال، كان يريدها "أشرف" فى حياته بأى شكل، حتى و إن ظلوا اصدقاءا فقط، و كان ذلك له هو أضعف الإيمان.

هكذا كان الحال دوما بينهما. مرت سنون و "أشرف" و "مها" يتواصلان بشكل مستمر، و إن كان متقطعا. الظاهر فى تواصلهما أنهما أصدقاء و لكن ما بينهما لم يكن مجرد صداقة، بل كان شيئا غريبا أقرب للمكاشفة و التجرد. حينما كانا يتحدثان أثناء لقاءاتهما المتكررة فى المطاعم و الكافيهات، أو حتى عبر الهاتف، كانا يتصارحان مثل طفلين بكل ما يعتلج صدريهما. كان لقاءهما أشبه بالاعترافات الكنسية. يلعب أحدهما دور القس و يلعب الآخر دور المسيحى المثقل بالهموم و الخطايا، جاء ينتظر الخلاص. تبدأ جلسة الاعتراف دائما بكوب من الشاي أو القهوة، يتناولان منه بضع رشفات ثم يبدأ طوفان الحديث. يتحدثان فى كل شئ. يتحدثان عما ما مرا به من تقلبات عصفت بهما، أو معضلة واجهتهما، أو فرحة غمرتهما مع الأهل و الأصدقاء، أو فكرة مجنونة يودان لو يسمح الدهر كى يَهِما بها.

ذات مرة، فى خريف ما، أخبر "أشرف" "مها" برغبته فى أن يسافر فجأة إلى ألمانيا، على أن يعود إلى مصر صباح اليوم التالى، دون هدف أو سبب محدد. هو يريد فقط أن يسترق نفسه من وسط مسئولياته و طنين الحياة، و أن يكرس يوما واحدا له هو فقط كي يسترجع يوما من أيام العزوبية. خطط فى ذهنه كثيرا أن يفعلها و لكن لم تواته الشجاعة الكافية. مازالت فيزا الشينجن خاصته سارية. كل ما كان عليه فعله هو شراء تذكرة الطيران ذهابا و إيابا من شركة الطيران القريبة من منزله. على أن يكون الطيران ليلا كى يصل ميونخ فى منتصفه، و يتجول فى شارع "ماكسميليان" أو كما يقول الألمان "ماكسميليان شتراسه" و ينظر إلى فاترينات المحلات الأنيقة للماركات المعروفة الباهظة الثمن. ثم يتسلل إلى الشوارع الجانبية فيجلس على إحدى المقاهي ليحتسى بعض القهوة و يكمل تجواله بعدها. يتخيل هواء ميونيخ الخريفى البارد يلفح وجنتيه. ثم يذهب قرب الفجر إلى فندقه المحبب "الفورسيزونز" فى نفس الشارع. ينام بضع ساعات ثم يفيق ليتجول طوال اليوم فى المدينة، ثم يركب القطار حتى يصل إلى مكان يحرص على الذهاب إليه كلما وطأت قدماه أرض ألمانيا. إنها محرقة "داخاو" التى زارها مرارا، و التى تقف شاهدا على حكم النازى فيدخل إليها لا ليحرق أجسادا، بل ليحرق متاعبه و أشياءا أنهكته و هو ينظر إلى أركانها. يتعجب من كم السلام النفسي الذى يشعر به و هو فى قلب المحرقة بشكلها المخروطى ذو الفتحة العلوية، و لون قرميدها الذى تلون برماد الجثث الملتهبة. كان هذا المكان فى الماضى هو رمز للبشاعة و العذاب، أما عندما يتجوله سائحا غريبا يشعر بهدوء عجيب. كأن أرواح من تعذبوا و ماتوا داخل معسكر الاعتقال تهدهده و تهمس فى أذنيه أن لا ألم بعد اليوم.

يخرج من المحرقة و معسكر النازى ليتوجه إلى حانة فى قلب المدينة، فيبتاع لنفسه بعضا من الجعة الألمانية الشهيرة. يحتسيها على مهل و لا يكثر منها حتى يظل بكامل وعيه. ثم... قد نستطيع أن نخمن بعدها ما يعتمل بخياله. زير نساء كبير مثله لن ينهى يومه فى ميونيخ دون أن يرتشف من جمال نسائها مثلما فعل بجعتها. يُنهى يومه فى الفندق، و يقوم بعمل  check out ليتوجه بعدها إلى المطار مستقلا طائرة العودة فى الليل أيضا. هدوء الليل ساحر، و هدوء ليل ميونيخ بالذات آسر.  هى مغامرة لم يفعلها حتى الآن، وهو يوم يود أن يقضيه من عمر زمانه لكنه بالنسبة له زمن آخر.

كانت الحياة تسير بين "أشرف" و "مها" على نفس الوتيرة تقريبا طوال سنوات. هى تعمل فى المعهد الفرنسى كمدرسة للغة الفرنسية التى تتقنها و تقوم بالترجمة للسفارة الفرنسية بالقاهرة من حين لآخر، و هو فى شركته يديرها بالنهار و فى بيته بين زوجته و أولاده بالمساء. كانا يتحدثان على الأقل مرة أو مرتين كل أسبوع؛ وطوال تلك السنوات تكاد تكون أحاديثهما لا تتغير. فى تلك الفترة لم يكن لدى "أشرف" مغامرات جديدة هامة. ليس أكثر من أن إحداهن بادلته إعجابا بإعجاب أو أن إحدى السيدات اللاتى لم يعجبنه عرضت نفسها عليه فأبَى، فهو صاحب مزاج رفيع، و له مستوى عال لا يقبل بأقل منه فى عشيقاته و حبيباته. كان يحكى ذلك ل"مها" بعد أن توطدت أواصر صداقتهما مع الأيام. أما "مها" فلم ترتبط نهائيا خلال تلك السنوات الثلاث، فجرحها الذى خلفه الانفصال لم يكن قد التأم بعد. و هاهو الجرح قد أوشك على البراء تماما و بات فى مقدورها أن تأخذ خطوة جديدة فى حياتها بعد أن تجمدت كل خططها و أحلامها لفترة طويلة، حتى الدموع الجارية تجمدت فى مآقيها من كثرة ما ذُرِفت فى السابق. لقد بدأت "مها" فى جمع شتات نفسها، و فى التخطيط لحياتها المقبلة من جديد. 

اتفق الاثنان على لقاء قريب على العشاء فى أحد المطاعم الراقية بالمدينة. و فى يوم اللقاء كان الشتاء معتدلا، مُرحبا بهما. ارتدت "مها" كل جميل لديها و كست جسدها بأجمل ثوب فى خزانتها و غطته بشال من الفرو ذو لون بنى دافئ. كان شعرها المنسدل يربت وجنتيها الورديتين من حين لآخر و يداعب شفتيها التى خضبتها بلون أحمر نارى من ماركة غالية، يكفي لأن يحول برد الشتاء إلى بركان "إتنا". و صوت كعب حذائها العالِ الأنيق يقطع صمت العالم.  لطالما أحبت "مها" الاهتمام بمظهرها مثلما أحبت أن تثرى جوهرها. كانت امرأة ثرية كما يقول الكتاب؛ كيانا و قلبا و روحا. إنها صاحبة عقل مفكر و روح قديمة ساحرة كما هى صاحبة شكل جميل و قدٌ ممشوق. أحيانا كانت ترى أن طليقها أقل من أن يدرك خسارته لها، لأن عقله لم و لن يستوعب حجم تلك الخسارة؛ رغم ذكائه و ألمعيته المشهود له بهما في عمله. و مع مرور السنوات بعد الطلاق، و مع تكرار محاولاته بالعودة لها أدركت أنها على صواب، فقد نَدِم. كان قد فات الأوان للرجوع و لكن مجرد رغبته فى العودة لها و إصراره على ذلك كان يعيد ل"مها" ثقتها بنفسها شيئا فشيا، فقد حطمها الانفصال وقت أن حدث، و نزع منها ثقتها و اعتدادها بنفسها إلى حد كبير. كان أحمقا أتاها فى الوقت الصحيح، بينما كان "أشرف" فارسا أتاها فى الوقت الخطأ. تلك هى معضلة حياتها.

و بعد أن استعادت "مها" تقريبا كامل حيويتها و روحها،  قررت أن تسترد حياتها، و أن تبدأ مرة أخرى فى أماكن جديدة و مع أناس جدد. و عندما التقت "أشرف" أول مرة، استيقظ شيئا فى داخلها كان قبل ذلك فى سبات عميق. و نَبَض قلبها نبضة خفيفة أشعرتها بأنها مازالت على قيد الحياة، لتصطدم بعدها بأنه متزوج و لديه أطفال. لم تترك نفسها للحزن و الاكتئاب مجددا، و إنما قررت أن تمضى فى طريق شفائها و أن تعتبر "أشرف" هدية جاءتها من عالم مواز لتعطيها أملا فى قدرتها على المضى قدما فى الطريق. و ستمضى! كان هذا هو قرارها الذي انتوت أن تخبر به "أشرف" فى ذلك اللقاء الذى كانت تعرف أنه ربما يكون لقاءهما الأخير.

وصلت "مها" إلى المطعم الأنيق حسب الموعد و لمحت "أشرف" جالسا على إحدى الطاولات فى انتظارها. اقتربت منه و قالت:

-        هاى أشرف. تأخرت عليك؟

-        أبدا. مواعيدك دقيقة دائما و أبدا. لقد أتيت أنا مبكرا.

-        هى عادتك أيضا. و هذا ما يعجبنى فيك.

-        هذا فقط؟

-        أكيد لأ. تعجبني أشياء أخرى و لكن احترامك لمواعيدك من أهم مميزاتك.

-        ماذا نطلب للعشاء؟

-        رويدك يا أشرف فالأمسية مازالت فى بدايتها. 

-        حسنا. اختارى طعامك على مهل و لنتحدث قليلا أثناء ذلك.

فعلا ذلك و أخذا يتجاذبان أطراف الحديث دون أن تتطرق "مها" لما انتوت أن تخبر به "أشرف". و بعد أن طلبا الأطباق الرئيسية و كامل مكونات وجبة العشاء جلسا شبه صامتين و نظراتهما تبوح بالكثير. بادرها "أشرف" بمكنون صدره، و عبر لها عن مدى جمالها تلك الليلة و علق جملة و تفصيلا على ما ترتديه من ملابس و إكسسوار و حتى عطرها الأخاذ الذى تنسمه حين صافحته. طأطأت "مها" رأسها خجلا و أثنت على جميل وصفه.  لكنه أعاد كلامه على مسامعها مؤكدا لها أنه لا يجمالها أو يريد أن يشعرها بأى إحراج، بل أنه لا يزيد عن كونه يقول الحقيقة التى يحسد نفسه عليها. ثم قال فى نبرة متحدية أنه يعلم تمام العلم أن الناس من حوله يحسدونه، بل و قد يكونوا يتساءلون ما الذي جعل امرأة صغيرة و جميلة مثلها  تجلس فى جلسة تبدو شاعرية مع رجل يكبرها فى السن إلى هذا الحد الملحوظ. 

-        أى حد هذا الذى تقصد يا أشرف؟ أنت بالفعل أكبر منى و لكن ليس إلى ذلك الحد الذى تتخيله. و لا يبدو عليك سنك أبدا.

اتكأ "أشرف" برسغيه على الطاولة و قد عقد يديه تحت ذقنه المرسوم و عيناه تلتهم "مها" التهاما و يداه العظيمتان تصبو إلى احتضان كفيها الصغيرين، بل إلى احتضانها كلها، ثم قال:

-        صحيح. و لكنى أكبرك بالعديد من الأعوام و أنا أدرك فارق السن بيننا جيدا.

-        و ماذا يهم فى فارق السن؟ و ماذا يشغلنا فى نظرات الناس وكلامهم؟

-        لا شئ. كل ما يهمنى هو انت.

-        نفس الشئ بالنسبة لى. كل ما يهمنى هو انت. و تهمنى صداقتنا.

 

أراد أن يعلق "أشرف" على كلمة "مها" الأخيرة لكنه أمسك لسانه و تراجع إلى الوراء حتى لامس ظهر الكرسى حين جاء النادل و بدأ فى رص أدوات الطعام و الأطباق على الطاولة أمامهما. تنحنج "أشرف" و اعتدلت "مها" فى جلستها. و بعد أن أتت أطباق العشاء الواحد تلو الآخر، بدأ كلاهما فى تناول الطعام فى حالة من السكون و الهدوء.  لكن "أشرف" كان يشعر أن هناك شيئا غير مرئي يدور بينهما، و لكنه أدركه بغريزة الصياد. كان يحدث نفسه عما قد يكون ذلك الشئ الذى أدخل فى نفسه القلق و الاضطراب،  لكنه لم يجد جوابا.

انتهى كلاهما من الطعام بعد برهة و طلب "أشرف" من النادل إحضار قائمة المشروبات و التحلية حتى يتسنى لهما أن يطلبا منها شيئا. أحضر النادل قائمتين فى همة و نشاط و وضعهما أمام كل منهما. نظر "أشرف" ل"مها" و بادرها:

-        ماذا تطلبين للتحلية؟

-        لا شئ. أشعر بالامتلاء بعد هذا العشاء الشهى.

-        و لكنك بالكاد أكلتِ. لم تنهِ حتى نصف طبقك!

-        هذا يفوق ما أتناول للعشاء بكثير. لقد تناولت هذا كله فقط لأنى معك. انت فتحت نِفسى (و ضحكت ضحكة رقيقة)

-        إذن فلنشرب شيئا ما.

-        حسنا. لا بأس. أستطيع أن أتناول بعض الشاى.

-        طبعا، فلنتناول الشاى معا.

تراجع أشرف على كرسيه فى ارتياح، وأضافت مها بابتسامة رقيقة: "جميل"، أتبعتها بصمت مريب أثار حفيظة "أشرف" فبادرها قائلا:

-        ماذا بك يا "مها"؟

-        ماذا بى؟ لا شئ هناك.

-        أشعر أنه ثمة خطبا ما، لكنك تكتمينه عني، ولا أعرف لماذا! 

أطرقت "مها" رأسها فى صمت زاد من حيرة "أشرف".

-        هناك شئ إذن.

-        (بصوت متردد) هناك شئ فعلا و لكنه ليس بالسوء الذى أشعربه فى نبرة صوتك.

-        إذن، لم التردد فى أن تحكى عنه؟ فلتتكلمى. أعتقد أنه لا توجد بيننا أسرار.

-        صحيح. أنت اقرب انسان لي. حتى صديقتى التى كانت سببا فى تعارفنا لم تعد موجودة فى حياتى الآن بسبب انغماسها فى حياتها و عدم اكتراثها بما أمر به من تغيرات. و غيرها من الصديقات و الأقرباء. الكل ابتعد عنى و لم أجد فى نفسى القدرة على مجاملة أحد أو الضغط على نفسى أكثر من ذلك كى أُبقى على ذلك الخيط الرفيع بينى و بينهم. بعد طلاقي كنت قد أصبحت شبه إنسان، أتنفس و آكل و أعيش دون روح؛ و لم يستوعب ذلك كل من حولى تقريبا. إلا أنت، كنت بمثابة الواحة التي لجأت إليها فى قيظ صحراء النسيان والحرمان. أنت الوحيد الذى كان يحدثنى فيما يؤرقنى و ينغص علىَ حياتى، أنت وحدك بدأت تُكسبنى ثقتى بنفسى مجددا. أشعرتني أنني امرأة مرغوبة و جديرة بالاهتمام و الاحترام.

-        انتِ بالفعل كذلك. و كان عبثا أن تشعرى بغير ذلك. انها خسارة لطليقك الغبى لم يدركها إلا متأخرا جداً. و كنت أعتصر ألما لمجرد التفكير أنه بتهوره و غبائه قد ترك فى نفسك ذلك الشعور البغيض بالنقص و الانهزام. انت امراة جميلة قلبا وقالبا. و لو كنت  أرى غير ذلك ما كنت أجلس أمامك الآن. ليس هناك ما يجبرني أن نظل معا كل تلك السنوات إن لم أكن على قناعة تامة أنك مثلما أقول و أكثر. لكن، ما الداعى لكلامك هذا يا "مها"؟ اصدقينى القول.

-        لقد قررت شيئا هاما.

-        قررتِ ؟؟؟

-        نعم... أشرف، أنت رجل متزوج.. و رغم كل ماتقول عن الزواج و الارتباط لكنى أعلم تمام العلم أنك تحب زوجتك و أولادك. و أعلم أيضا أن كلمتك عن الزواج و كونه أسوأ نظام اجتماعى هى طريقتك التى ارتأيت أن تُفهِمنى بها استحالة زواجنا. 

-         و لكننا لم نتعرض لموضوع الزواج بيننا إلا على سبيل المزاح. هل قرأتِ ما بداخلى دون أن أبوح به؟ لو فعلتِ لما قلتِ هذا.

-        أعلم تمام العلم يا "أشرف" أننا لن نتزوج إلا بالطريقة التى أرتضيها لنفسى. و أنت تعلم ذلك أيضا. و بالتالى لن نتزوج. يبدو أننا التقينا فى الوقت الخطأ. تخيل لو كنا تقابلنا قبل زواجك و زواجى! كانت ستتغير أشياء كثيرة.

- ربما. و لكن ربما كنا افترقنا أيضا، لأنى وقت تزوجت كنت فى الثالثة والأربعين من عمرى و أنت كنت مراهقة صغيرة فى مقتبل العمر.

ساد بينهما صمت كئيب قطعته "مها" بغتة:

- "أشرف"  فلنبق أصدقاء و لكن ليس ككل الأصدقاء. ما بيننا مشاعر جميلة طيبة و لن نتجاوزها.  قد تكذبنى حين أقول أننى شعرت برغبتك أن نرتبط أكثر من مرة، و لكنك لن تكذبنى حين أقول أنا لك أننى كنت أود ذلك فى داخلى.

-        حقا؟ أحقا تريدين أن نرتبط؟

-        بكل تأكيد.

-        لكن فارق السن؟؟؟

-        ليست تلك هى المشكلة.

-        (قال متوجسا) و ماهى المشكلة إذن؟

-        المشكلة أنك رجل متزوج و أنك تحب و (بتردد) تخاف زوجتك.

-        أنا لا اخاف زوجتى. و لكني أحترم مشاعرها.

-        سيان. المحصلة هى أنك لا تقوى أن تخبرها بنيتك فى الزواج من أخرى مهما بلغ حبك لغيرها من النساء. هل أنا على خطأ؟

-        .......................

-        كلامى صحيح. 

-        لم أكن أعلم أنك تفكرين فى الزواج بى قط.

-        هذا ليس مهما طالما أن النتيجة لن تسفر عن زواج بالفعل. سواء رغبت أو لم أرغب لا يهم. فلن تستطيع أن تتزوجنى زواجا شرعيا معلنا فى تلك المرحلة من حياتك، و أنت تعلم تمام العلم أننى لن أقبل بغير ذلك.

-        اممممم، لقد قلتِ منذ برهة أنك اتخذتى قرارا. هل ستتزوجين؟؟؟ هل هناك رجل آخر فى حياتك؟؟ رجل غيرى؟؟

-        (ضاحكة) أتغير على؟؟؟

نظر لها "أشرف" نظرة حيرة و قلق و لم يستطع الرد فأردفت هى قائلة:

-        اطمئن. أنا أعلم قدر محبتك لى و غيرتك على. و أحترم كل تفاصيل مشاعرك ناحيتى. قرارى ليس بالزواج من رجل آخر.

-        ما هو قرارك إذن؟

حضر النادل و معه براد الشاى و الأقداح و السكر و الحليب، و وضع كل تلك الاشياء فى ترتيب دقيق أمامهما. ثم سأل موجها حديثه لأشرف:

-        هل هناك شئ آخر تحتاجانه يا فندم؟

شكره "أشرف" فى عجالة و لم يُزذ على ذلك، فانصرف النادل.

-        ها... أخبرينى يا "مها" ما هو قرارك؟ الفضول يقتلنى.

-        سأسافر.

-         تسافرين! أين ؟ و لم ؟

-        الإمارات، دبى. عُرِض على العمل هناك فى مركز كبير لتعليم اللغات. الراتب مجزِ و ظروف العمل مغرية. ما الذى بقى لى هنا يا "أشرف"؟ الأهل مشغولون فى حالهم و الأصدقاء شبه معدومين فى حياتى. معظمهم مجرد معارف. أنت صديقى الصدوق و صداقتنا كانت مهمة لى وقت ضعفى و انعدام ثقتى بنفسى، و هى التى حفزتنى أن آخذ تلك الخطوة.

-        كانت؟

-        لا أقصد ذلك.. انا فقط اتحدث عن صداقتنا فى الفترة السابقة من حياتى.

-        و الآن... صداقتنا لم تعد مهمة؟؟

-        بالعكس. مازالت بنفس أهميتها لدى و لكن قربنا أصبح خطرا على كلينا. فأنت تريدنى و لا تستطيع الارتباط بى. و أنا الأن على استعداد أن يدخل رجل فى حياتى. لم أكن مستعدة قبل ذلك، لكن الآن أستطيع. 

-         رجل؟؟ إذن هناك رجل بالفعل!

-        (ضاحكة) لا تخف، لا يوجد أحد. وهذه هي المشكلة. لا يوجد أحد فى حياتى، ولن يوجد أحد فى أثناء وجودك. لابد أن أبتعد قليلا حتى يتسنى لى أن أنظر حولى، أن أرى غيرك وغير طليقى .

-        هل حاول العودة لك من جديد؟

-        هو يحاول دوما، و لكن فليحاول أبد الدهر، لقد سقط من نظرى و لو لم يبق على وجه البسيطة غيره لن أعيد الكرَّة و أتزوجه. لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين.

-        و هل ستجدين رجلا آخر فى السفر؟

-        ممكن. قد يحدث هذا فعلا. لكن الأهم من ذلك أن أجد نفسى. إن وجدت نفسى سأجد ذلك الرجل.

-        و انت لا تستطيعين أن تجدى نفسك هنا؟

-        لقد جُرِحت هنا، والتأم جرحى هنا. و لكى أبدأ من جديد لابد أن أختار نقطة بداية جديدة. هنا طليقى و هنا أنت، لن استطيع أن ألتفت لرجل آخر فى وجودكما. لابد أن أرحل. أصدقني القول يا "أشرف"، تخيل أن جاءنى اليوم عريسا و أعجبت به و قررت الارتباط به فعلا، ألن يكون صعبا، بل مستحيلا، أن أتزوجه و نحن على علاقتنا الوطيدة تلك؟ و إن تحملت أنا ذلك التغيير الجذرى فى حياتى لرغبتى فى ذلك، هل تتحمله أنت؟

طأطأ أشرف رأسه دون رد.

-        بالظبط... لأن ذلك مستحيل فلن أفعله. لابد أن نبتعد و أن نأخذ فسحة من الوقت كى نستطيع أن نقدم على دخول مرحلة جديدة من حياتنا. ولا تنس أنك متزوج بالفعل. أدرك أن زواجك كان قبل معرفتنا بسنوات طويلة. لذلك لا ألومك عليه. لقد دخلت حياتك و أنت زوج و أب. أما إذا تزوجت أنا الآن فسيذبحك زواجى و سأشعر كما لو أننى طعنتك برجل آخر. و أنا لا أستطيع أن أفعل ذلك بك.

- .................

-        أشرف، هل تعتقد لو كنا التقينا و أنت أعزب أنه كان بإمكانك أن تتزوج من غيري؟ 

-         بالطبع لا. لو كنت عازبا و كنتِ انتِ فى حياتى كنت تزوجتك على الفور، و بلا تردد، و لو كانت أمامى كل نساء العالم. كم كنت أود ذلك.

-        كذلك لن أستطيع أنا أيضا أن ارتبط برجل آخر و أنت أمامى طوال الوقت.

ظل "أشرف" صامتا و عيناه تشبهان علامتى استفهام كبيرة.

-        إذن، نعود لنقطة البدء. أنت رجل متزوج و هذا يقف أمام ما نريد. وأنا لابد أن أعيش و أن تستمر حياتى و أن تكون لدى أسرة مثلك. فى نهاية المطاف يغلق باب غرفتي عليَ وحدى كل ليلة. لا أنيس و لا جليس، و لا حبيب أرتمى فى حضنه الدافئ فى ليلة باردة مثل هذه. أما أنت فتذهب إلى حضن أولادك و زوجتك كل ليلة. و ماذا عنى؟ هل أظل وحدي حتى النهاية؟ انا التى لم تجرم بحق أحد أعيش كالمنبوذين؟ وحدى؟ أنتظر أن تنتهى من عملك كى تحدثنى بينما زوجتك نائمة، أو أثناء غيابها وعدم وجود الاولاد حولك! لماذا؟ لماذا؟

انحدرت دمعة على خديها فأسرعت بتناول محرم من فوق الطاولة لتمحوها.

-        إهدئى يا مها. إهدئى.عندك ألف حق. أنا آسف.  نحن الرجال أنانيون. نريد أن يبقى من نحب رهن إشارتنا، و أن يخلد لنا نحن فقط. لك كل الحق أن تبدئي حياتك من جديد، و أن تسعدى من جديد، مع رجل جديد. خاصة و أننى كما قلتِ رجل متزوج. و صحيح، أنا أخشى زوجتي، أخشى رد فعلها، أخشى أن أهدم بيتى الذى بنيته، أو أن أخسر أسرتي. أنا آسف.

رفعت مها عينيها فى قوة وديعة أليفة صوب "أشرف" و قالت:

-        لا تتأسف يا أشرف. هكذا جرت المقاديرو لا يوجد بأيدينا شيئا نفعله حيال الظروف. و أنا لا ألومك على أى شئ، بل أشكرك على كل ما فعلته، و مازلت تفعله من أجلي، و على صراحتك معى.

-        لا مجال للشكر بيننا يا حبيبتي، فأنت تعلمين أنني أعني كل كلمة قلتها لك و أستمتع بكل لحظة أكون فيها بجانبك. لقد جلبتِ لحياتى شيئا عزيزا وسط سخافات الحياة. مشاعري ناحيتك كانت دوما تُجَمِّل أيامى. من بين كل النساء اللاتى عرفتهن كنت أنت النقطة البيضاء وسط زخم من الألوان القاتمة. و لن أخسرك مهما كانت الظروف، و لن أضحى بسعادتك مهما كان الثمن.

-        هذه أول مرة تقول لى "يا حبيبتى" بهذه الطريقة.

-        لأننى أول مرة أعيها و أشعر بها بهذه الطريقة. يبدو أننى كنت أحبك طول الوقت دون أشعر.

-         و ما الفائدة؟

-         صحيح، ما الفائدة؟

هل انتظرت "مها" منه ردا غير ذلك؟ هل توقعت أن يأخذها "أشرف" إلى المأذون ليعقد قرانه عليها من فوره؟  أم اعتقدت أنه على استعداد أن يتحدى نفسه و أن يستجمع شجاعته و يخبر زوجته أنه يحبها و يريد الزواج منها؟ أم توهمت أنه سيترك أولاده و يهدم بيته كي يهبها حياته و حبه و اهتمامه؟

أيا كان ما دار بعقلها فى تلك اللحظة، فقد انهار أمام رده العاجز البائس، "ما الفائدة؟" بالطبع.هل يفيد اجتماع  شقين بعد أن أبعدتهما الأقدار؟ هل يفيد تلاقى الزهرة بجذورها بعد ان اجتثت منها؟ هل يفيد أن تبث الهواء فى جسد فارقته الحياة؟

زفرت "مها" زفرة مشحونة بمعانٍ هى خليط متضارب من الحب و الغضب و الشجن و القهر و الحرمان و اللين و الحسم، و أتبعتها قائلة:

-        إذن ستأخذني إلى المطار وقت يحين موعد سفرى، أم أودعك الأن قبل أن ننهى عشاءنا؟

-        (موجوعا) بالطبع. فقط اخبريني بموعد السفر و ترتيباتك و سأكون معك حتما.

نظرت "مها" لـ"أشرف" بارتياح فيه مسحة من شجن. ثم سرحت بخيالها قليلا في مستقبل أيامها المبهم. هى لا تعلم شيئا عما سوف تواجه فى غربتها و فى عزلتها تلك، ولكنها تتمنى شيئا واحدا، ألا وهو أن تجد ذاتها. تلك هى مهمتها القادمة. هى تدرك تمام الإدراك أن كلها إصرار فى أن تختار مقدرات حياتها بناءا على تلك الذات الجديدة القوية التى، حتما، ستجدها. تعلم "مها" أن الآتى لن يكون أسوأ مما مضى بأية حال، و أن ما بقى فى عمرها هو لها لا محال؛ و أن من يدخل حياتها صديقا أو حبيبا أو زوجا سيكون مكملاً لها لا أساسا ترتكز عليه كينونتها و يعتمد عليه بقاءها. لقد أختارت لها الظروف الشخص الخطأ حين كان الوقت ملائما، ثم أخطأت الظروف مرة أخرى فى اختيار الشخص المناسب لها فى الوقت الخطأ. لذلك ستسعى لتتأكد أن تكون هى من يصنع الظروف و من يختار فى المرة القادمة.

 اعتدلت "مها" فى جلستها و انتبهت لـ"أشرف" مرة أخرى و قالت له مبتسمة:

-                 فلنكمل الشاي إذن. 

أطرق "أشرف" بصره و سكت هنيهة ثم  تناول فنجان الشاى خاصته و نظر فى عينيها و تمتم:

-                فلنكمل.

 

###تمت###