لا اعرف أى الصحف أكثر مصداقية كى أبدأ من جديد فى مطالعتها. نحن الآن فى الأول من أكتوبر عام 2015. و آخر عهدى بمتابعة الأخبار عن كثب و تدقيق و تمحيص كان فى أواخر عام 2002. حينها كنت ممتلئة بالحماس و الشغف للانغماس فى أمور عادية مثل متابعة الأخبار العالمية و المحلية و قراءة الجرائد و المجلات المختلفة و متابعة التلفاز ببرامجه ( التى كانت ماتزال الى حد ما جيدة) و المسلسلات و الاشتراك فى مسابقات فنية و أدبية و حضور فعاليات المؤتمرات و المناقشات و خلافه التى كنت أستطيع أن احضرها من آن لآخر. ليس ذلك فحسب، بل كانت لدى بعض الميول الصحفية و رغبة حقيقية فى ان أكتب و أن ادلو بدلوى فى مصير هذه الأمة. ههههههه . تفكير شبابى مندفع و ملئ بالطموح و الآمال العريضة. و لكننى كنت دؤوبة فى العمل إلى حد كبير، مصممة على الوصول و ترك بصمتى فى هذا العالم. إلى أن حدث فى يوم أسود كنت فيه طالبة فى السنة الرابعة بكلية الآداب جامعة الاسكندرية، و كان هذا فى النصف الثانى من العام 2002.. ذهبت كعادتى متوهمة أنه يوم اعتيادى و ليس هناك مايميزه عن غيره برغم الحالة المشتعلة التى تعصف بالمنطقة العربية خاصةَ بالقدس و فلسطين فى ظل الانتفاضة الثانية للقدس و التى استمرت من 28 سبتمبر 2000 و حتى 8 فبراير 2005. و لكنه لم يكن يوما مثل أى يوم. ففى ذلك اليوم كانت أصداء انتفاضة الأقصة قد بلغت مداها بين شباب و شابات الاسكندرية بالجامعة و كان المجمع الأدبى على شفا الانفجار. و قد حدث. قبيل ان أغادر الجامعة فى ذلك اليوم العاصف كانت الامور قد اشتعلت بالحرم الجامعى و الطلاب قد انتفضوا فى مظاهرات عارمة احتجاجا على مايحدث فى القدس تحت مرأى ومسمع من قادتنا و عالمنا العربى النائم فى عسل أسود. كنت على وشك مغادرة الكلية و نزلت بالفعل من الدور الرابع حيث قسم اللغة الانجليزية و ترجلت الدرج حتى وصلت الى ساحة كلية الآداب فرأيت مشاهدا لم يسبق لى فى حياتى أن أراها مسبقا الا على شاشات التلفاز. و كأننى أمام صورة حية من الاشتباكات التى أشاهدها منقولة عن الموقف فى الأقصى. شباب يحمل الحجارة و يقذف بها جنود الامن الذى حاول قمع المسيرة. للحظات قاسية تخيلت هؤلاء الشباب هم أهلنا فى فلسطين و الجنود امامهم لم يكونوا جنود الأمن المركزى المصرى بل صاروا هم نفس جنود الاحتلال الصهيونى. نفس الشكل، نفس التصرفات، نفس العنف، نفس القوة المفرطة، نفس كل شئ. و فوجئت بالدخان يحف المكان من اتجاهات شتى. و اصوات تكسير زجاج و انفجارات مدوية. أحسست ان روحى على وشك الصعود و كنت و غيرى من الشباب و الشابات متابعين للموقف غصبا و ليس تطوعا منا. لم نستطع الخروج الا عندما فتحت البوابات و كان وقتها قد بدأ يفد الى ساحة كلية الاداب بعض الطلبة المصابين يحملهم زملاؤهم قادمين من ناحية كليات الحقوق والسياحة و العلوم . سمعنا ان الموقف متأزم جدا فى أقصى المجمع ناحية مبنى كلية الحقوق. لم يكن بيد
احد منا أى شئ. كلنا مذهولون. لم يستطع أى منا ان يفتح فمه و لو حتى ليكح من أثر الدخان و الغاز المسيل للدموع الذى حمله الهواء باتجاهنا. حالة من الاختناق الداخلى المعنوى كانت تقتل فينا أشياء. انا على يقين اننا لم نستشعرها فى نفس اللحظة، بل أدركناها فيما بعد. فبالنسبة لى حدث أن فقدت رغبتى فى المشاركة فى أى قراءات أو كتابات سياسية. و كنت قبيل ذلك الوقت أكتب بعض المقالات الصغيررة فى جريدة التجمع بشكل هاوِ رافضة ان انضم للحزب أو أى حزب آخر كمبدأ. و هذا شئ لم يتغير فى نفسى حتى هذا اليوم. دائما أذكر اننى اردت الحرية و كنت دائما أنبذ القيود حتى قيود الانتماء لحزب أؤمن جزئيا أو كليا بمبادئه، فانتمائى الأكبر هو الانتماء للوطن و للإنسانية و هذا من وجهة نظرى لا يحتاج للتحزب و لا المسميات. حاولت ان اكتب تحقيقا عما حدث فى ذلك اليوم بالجامعة و كتبته فعلا. لعل التحقيق مازال بين اوراقى القديمة التى احتفظ بها دائما. لكنى لا أذكر انه نشر، فقد سبقنى احد المحررين الشباب فى تقديم التحقيق و من ثم سبقنى الى النشر بالجريدة. لم أبال لاننى كنت قد فقدت كل رغبتى فى المتابعة و الاستمرار فى اى شئ يخص تلك المهزلة. شعرت ان ما حدث امامى كان مجرد تجسيد لواقع لم استوعبه بالوصف و عبر موجات التلفاز. نحن نتابع احداث القتل و التنكيل لاخواننا بفلسطين كما لو كنا نتابع فيلم "أكشن" لجاكى شان. لن يشعر احد منا بمعنى النضال او الكارثة او الألم الا عندما يمر بالمواقف التى تشعره بتلك المعانى. صدق من قالوا قديما و بالعامية المصرية التى ترسم ملامح ذلك الشعب العظيم "اللى ايده فى المية مش زى اللى ايده فى النار." حقيقة مؤسفة. التكنولوجيا أفادتنا و لكنها جعلتنا نتعود على ان نشاهد...نحن أصبحنا مشاهدين درجة أولى. مقاعدنا دائما محجوزة لنتابع و نرمق ما يحدث فى ظل وجود مسافة أمان. هذا دورنا الذى رسمته لنا التكنولوجيا و لا ترى فيه حكوماتنا أى عيب. فى دول الغرب عندهم نفس المأساة.. فقد علموا قبلنا ان التكنولوجيا أفادتهم و لكنها ستحولهم الى متفرجين و هذا لهم أيضا كحكومات معقول جدا و لكن ليس لكل الفئات. لذلك اخترعوا ألعاب حية للقتال يذهب فيها الاطفال و صغار الشباب و حتى الرجال و النساء فى مشهد شبه واقعى لساحات القتال. يحملون أسلحة تشبه البنادق و القاذفات الحقيقية. و يلطخون من يصيبونه ببقع من الألوان المعبأة بتلك الأسلحة حتى تعطى الانطباع بانهم أصابوا ذلك الشخص. هؤلاء قد فهموا خطورة ان يصبح الكل مشاهدا و متفرجا. و لكننا لم ندرك ذلك. و لكننى ادركت ذلك على المستوى الشخصى. و لا اعرف لماذا و لا كيف أدركته! هل تقدم العمر هو السبب؟؟ هل تطور الوعى و الإدراك بحكم التجارب هو السبب؟؟ هل هى خطورة الأحداث التى صارت واضحة حتى للأعمى و صوتها لا يخفى على الأصم؟؟
أيا كان السبب فأنا على أتم استعداد الآن ان أعود إلى شغفى السابق بالتحصيل و المتابعة لكل الأحداث الجارية. عندى الرغبة فى ان أعرف و أتحقق و أبحث. عاد لى شغفى القديم بان أحمل مصباحا افتراضيا أدور به فى دروب الحياة باحثة عن الحقيقة و عن الإنسانية، مثل الفيلسوف اليونانى القديم " ديوجين اللافرسى" الذى كان فعليا يحمل مصباحه ليلا نهارا و يفتش عن شئ لا يعلمه من حوله. و حين سألوه عما يبحث عنه أجابهم بكل ثقة: "اننى أبحث عن إنسان." و فسر ذلك انيس منصور بأن الفيلسوف كان يبحث عن القيم الانسانية فى داخلنا لا عن شخص بعينه.
أيا كان السبب فأنا على أتم استعداد الآن ان أعود إلى شغفى السابق بالتحصيل و المتابعة لكل الأحداث الجارية. عندى الرغبة فى ان أعرف و أتحقق و أبحث. عاد لى شغفى القديم بان أحمل مصباحا افتراضيا أدور به فى دروب الحياة باحثة عن الحقيقة و عن الإنسانية، مثل الفيلسوف اليونانى القديم " ديوجين اللافرسى" الذى كان فعليا يحمل مصباحه ليلا نهارا و يفتش عن شئ لا يعلمه من حوله. و حين سألوه عما يبحث عنه أجابهم بكل ثقة: "اننى أبحث عن إنسان." و فسر ذلك انيس منصور بأن الفيلسوف كان يبحث عن القيم الانسانية فى داخلنا لا عن شخص بعينه.
إذن فليكن.. فليبدأ البحث :)