كفكفت دموعها الغزيرة و قامت بتثاقل شديد متوجهة
ناحية المطبخ. وقفت أمام الموقد و أشعلته ثم أحضرت كنكة القهوة و بدأت فى صنع
فنجان القهوة السادة الذى لا تحلو حياتها بدونه..
لماذا القهوة؟ و لماذا لا تضع عليها أى ذرة سكر؟ هى
نفسها لا تدرى و لكنها تعلم جيدا انها اعتادت مذاقها و الوقوف أمام الموقد لصنعها
أكثر من مرة على مدار اليوم. على مر السنين، أصبحت إدمانها الذى ينسيها مراراً آخر
تذكرت أطيافه و هى أمام الموقد.
سرحت بذكرياتها و هى تقلب القهوة فى الكنكة و جلبت
تلك الحركة التى اصبحت لا شعورية الكثير من الذكريات و الأحداث و المواقف طالما
فشلت ان تتناساها او تتحكم فى بواعثها.
لون القهوة الداكن ذكرها بلون حياتها الماضية و
مستقبلها التى لا تعلمه بعد، فهو قاتم لغيبيته و لكنها تأمل أن يكون أفتح لونا و
أبهج أثرا عليها و على من تحب. وتيرة
تقليب القهوة ببطئ جعلتها تستشعر بطء الأيام التى عاشتها فى كنف طليقها. كم كان
رجلا مقيتا. لا.. لم يكن رجلا. لم تتذكره رجلا بل تذكرته مخلوقا بشعا بغيضا. بخيل
المشاعر شحيح اليد. أنجبت منه ثلاثة أطفال مثل الور. بنت وولدين. نعم! تزوجته عن
حب، حب كبير. و حاربت أهلها بإصرارها على الموافقة عليه دون غيره. لم يكن فى وسع
والدتها ان تفوه بشئ أمام ذلك الحب الغر و لم يكن فى مقدور والدها إثنائها عن
اندفاعها البرئ فى حب أعمى.
لابد أن أبى كان يرى ما عميت عيونى عن رؤيته مثل
قطة وليدة.. يالغبائى و يالتعاسة والدى المسكين. حتما كان قلبه يتمزق و هو يرانى
أسير نحو الهاوية. سامحنى يا أبى فأنا لم أكن أعرف شيئأ.
انحدرت دمعة صغيرة أخرى على وجنتيها و هى تتذكر
والدها و تتذكر حديثه العاقل المتزن و كم حاول إثناءها عن تلك الزيجة التى شعر
بفشلها قبل حتى ان تبدأ.
لم تدرك حسناء حجم الكارثة الا عند أول احتكاك
بينها و بين خالد زوجها السابق و "أبو أولادها".
كان الوقت بعد زواجهما بأيام.. وقت عيد الأضحى.
المناسبة سعيدة و بهجة الزواج مع فرحة العيد كانتا مثل جرعة خمر أسكرت حسناء و
جعلتها تعيش فى حالة من الانتشاء و السعادة الغامرة التى لم تتخيل يوما ان تتحول
أو تتبدل. لم تفق من تلك النشوة الا فى أول يوم للعيد على صوت خالد.
خالد: كلمتى أمى تقوليلها كل سنة و هى طيبة؟
حسناء: (بصوت خافت ملئ بالدلال) بصراحة يا حبيبى
لا.
خالد: (بنبرة ساخرة) يعنى ايه؟ طيب قومى كلميها
دالوقتى حالا.
حسناء: بصراحة..انا مش عايزة.. اصل حصل موقف بينى و
بينها من كام يوم و مامتك اتصرفت معايا بطريقة غريبة و انا ماحبتش اضايقك ساعتها..
و ..
خالد: (مقاطعا) ايه اللى انتى بتقوليه ده؟ موقف ايه
و هبل ايه؟ قومى كلميها دالوقتى حالا. يالا.
حسناء: طيب اسمع بس يا خالد و احكم انت بنفسك...انا
لو كلمتها بعد الكلام اللى قالته هيبقى معنى كده ان كلامها اللى قالته عنى و عن
اهلى انا راضية بيه و انى من هنا و رايح هقبل الغلط فيها و فى أهل....
خالد: (نهض غاضبا و أمسكها من شعرها و صفعها صفعة
قوية افقدتها النطق للحظات)
مش عايز أسمع اى كلام فارغ.. من أولها هتقولى لى
أمك عملت و سوَت!! ما اسمعش صوتك الا و انتى بتكلمى امى بتعيدى عليها. فاهمة و لا
لأ؟؟
حسناء: (مذهولة باكية) انت بتضربنى؟؟؟؟
خالد: (ينظر اليها و فى عينيه لمحات من جنون مفاجئ)
و اموتك كمان لو قلتى كلمة زيادة. قومى كلميها دالوقتى حالا و الا هتباتى جثة.
حسناء استشعرت قدرة خالد فى تلك اللحظة على قتلها
دون ان يشعر العالم بها ... لوهلة شعرت انها امام وحش كاسر و شيطان لا يرحم. لم
تفهم شيئا و لكنها قامت مسلوبة الارداة و استلمت الهاتف الأرضى و هى تمسح دموعها
محاولة ان تخفى اثار بكائها من صوتها المهزوز و قامت بمعايدة حماتها و هى ترجف من
الداخل.
أثناء ذلك كان خالد يرمقها بنظرات احتقار هدمت
كل ثوابتها... هل هذا خالد الذى لاذت إلى صدره ليحميها من كل قذارات الحياة؟ هل هو
حبيبها الذى وعدها ألا تبكى أبدا و على قيد الحياة؟ هل ذلك هو نفس
ال"خالد" الذى أخبرها ان قلبه ينبض بحبها و يخفق لسعادتها و هنائها؟ لو
كان هذا هو خالد فالمستحيلات الثلاث كذبة و الشمس تشرق من حيث مغربها. لقد انتهت
سعادتها منذ ذلك اليوم. لم تعد نفس الانسانة و لا حياتها نفس الحياة بل ساءت من
يومها...
انتبهت حسناء لتصب قهوتها. أخذت فنجانها و توجهت
الى الصالة. أمسكت هاتفها و اتصلت بهناء: ابنتها الكبرى.
حسناء: آلو.. هناء..
هناء: آلو ماما... إزيك يا حبيبة قلبى؟ ثوانى اطلع
اكلمك من الصالة علشان محمد نايم.
معاكى
يا ماما. انتى صاحية لحد دالوقتى ليه؟ الوقت اتأخر أوى
حسناء: أبدا حبيبتى .. قلقت من نومى و قلت أصلى كام
ركعة قيام ليل و اشرب قهوة و ارجع انام
هناء: هههههه برضه القهوة يا ماما! ما بتقدريش
تعيشى من غيرها
حسناء:ههههههه انتى عارفة امك يا هنوءة... القهوة
هى حياتى و ما استغناش عنها ابدا...
هناء: عارفة طبعا يا ماما... بس ايه اللى قلقك من
نومك؟
حسناء: و الله يا هناء قلبى واكلنى على علاء أخوكى..
بقاله يومين ما بيردش على اتصالاتى و لا
رسايلى
هناء: اكيد زعلان لما هزقتيه على مشيه العوج.. بس
كان لازم يا ماما ... هو كان متخيل انك تعرفى انه ساقط فى الكلية و مضيع فلوسه على
اصحابه و البنات و بيستغفلك و هتسقفى له مثلا؟ انا كمان مخاصماه و مش هكلمه الا لما
يوعدنى انه هيمشى عدل... و اهه مهاب الاصغر منه قاعد معاه فى البيت مع بابا ...
بيبلغنا اخباره علشان مايفلتش و نعرف نلم الموضوع معاه. بنشد و نرخى و ربنا يهديه.
حسناء: انتى عندك حق يا هناء ...بس لازم نعذره
برضه.. انتى عارفة من يوم طلاقى أنا و ابوكم و الاولاد اعصابهم تعبت و أحوالهم مش
تمام. و أبوكى مش عايز برغم كل اللى حصل يتعدل و يفكر فيكم خالص زى ما انتى
شايفة... لسه عنيد و بخيل و انانى... ده اخر مرة كلمت جيراننا علشان اسلم عليهم و
أوصيهم على اخواتك قالولى ان ابوكم بيدور على عروسة.. حتى الجيران استنقصوه و
قالوله انت شعرك شاب.. و اولادك ماشاء الله أصغرهم فى الاعدادية و الكبيرة اتجوزت
و الوسطانى شاب فى الكلية... عايز تتجوز ليه
هناء: يتجوز!!! ماشاء الله.
حسناء: لا و النكتة ليه عايز يتجوز... تخيلى لما الجيران سألوه عن سبب جوازه يقولهم إيه؟
هناء: فاجئينى يا ماما و لو انى ما عدتش أتفاجئ بأى
حاجة أبويا يعملها...
حسناء: عايز يخلف!
هناء: نعم؟! هههههههههههههه بجد يا ماما؟؟؟
حسناء: و الله يا بنتى... بيقول للناس انه عايز
يتجوز علشان نفسه فى اولاد تانى.
هناء: ده اتجنن رسمى... طيب يكمل تربية اخواتى و
بعدين يفكر يجيب غيرهم ... بدل ما هو مشرد اخواتى و مخليهم مش طايقين نفسهم بسبب
أفعاله. عايز يجيب عيال تانى يشردهم و يقهرهم زى ما عمل معانا؟؟؟ حسبى الله و نعم
الوكيل.
حسناء: و الله يا هناء حال اخواتك مقطع قلبى و لولا
انك اتجوزتى و بقالك بيت انا ماكنت طلبت الطلاق من ابوكى و اتحملت الذل كله اللى
كنتم شايفينه بعنيكم... انا اتخيلت اخواتك الاولاد هيكونوا اقوياء و قلت هم رجالة
و مش أطفال...و كلها كام سنة ويخلصوا دراسة و يشتغلوا و يعينونى على الحياة... و زى
ما انتى عارفة انا بحاول اعمل قرش ينفعنى و ينفعهم فى الغربة على أمل اساعدهم
يقفوا على رجليهم و يمكن اعرف اجيب حد منهم هنا عندى فى الكويت بعد ما اكون ظبطت
امورى. لكن احوال اخواتك ماتطمنش و حسستنى بانى اذنبت يوم ما اتطلقت من ابوكى. حتى
اهلى مغلطينى دالوقتى و بيقولوا لى "ليه ما اتحملتيش لحد ما اولادك يخلصوا
جامعة و يشتغلوا؟"
هناء: أكيد خالى ياسر اللى قال لك الكلام الماسخ
ده. انا عارفاه و عارفة انه يطلع منه الكلام ده. الا ماعرف يقف جنبك قصاد ابويا
لما كنتى على ذمته! جاى كمان دالوقتى يغلطك.
حسناء: اه و الله ده انا هتنقط يا هناء.. مع انه هو
و كل اهلى كانوا اكثر ناس شاهدين على البهدلة اللى كنت فيها... و طرد أبوكم ليا من
البيت فى انصاص الليالى و ضربه ليا و بخله علينا.
هناء: انتى هتحكيلى ايه و لا ايه يا ماما! انا
شاهدة على كل حاجة... و فاكرة كل اللى عمله فيكى و فينا.. لما كان يخرج و يرجع من
شغله مش سايب مليم فى البيت نجيب بيه لا فطار و لا غدا و لا عشاء.. متخيل ان الاكل
و الشرب هينزلوا لنا من السماء. و سايبك لوحدك تتصرفى... من غير شغل و لا حد
يساعدك فى أى حاجة. لولا انه أبويا كنت دعيت عليه لكن مش هقدر أقول غير حسبى الله
و نعم الوكيل.
حسناء: أيوة يا بنتى... حسبنا الله و نعم الوكيل.
هناء: صليتى يا ماما؟
حسناء: أه.. و بشرب القهوة و هروح انام تانى ان شاء
الله.
هناء: طيب يا ماما.. كويس.. اسيبك تكملى قهوتك و
أروح أنيم سليم... سامعاه بيعيط.. أروح أنيمه قبل ما ابوه يصحى.. و انتى عارفة
محمد عصبى... هيقوم يبهدلنى و يزعق علشان عنده شغل الصبح. و انا مش ناقصة.
حسناء: روحى يا حبيبتى بسرعة و بوسى لى سليم لحد ما
اجى و اشوفكم على خير ان شاء الله. خلى بالك على نفسك و على ابنك و جوزك.
هناء: و انتى كمان خلى بالك على نفسك يا حبيبتى. لا
إله إلا الله.
حسناء: محمد رسول الله يا حبيبتى. مع السلامة.
تغلق حسناء الخط متثاقلة. تذهب إلى غرفتها بسكن
المعلمات الذى تقطنه. تمشى على أطراف أصابعها حاملة فنجان القهوة. تخشى حسناء أن
توقظ زميلتها بالغرفة. فتاة أردنية غير متزوجة كانت هى الأقرب إلى حسناء من بين كل
المعلمات. برغم اختلاف جنسياتهما و لكنتيهما إلا أن كلاهما تفهم الأخرى من كلمة أو
حتى من نظرة. الغُربة طبعت عليهما حزنا كبيرا قرًب بينهما و تآلفت روحيهما و
طبائعهما بتوفيق إلهى. فكانتا سندا لبعضهما البعض و معينا على تقلبات الدهر فى
غربتهما المقيتة.
برغم تسلل حسناء بهدوء إلى الغرفة لكن زميلتها
عاليا أحست بها و قالت بصوت خافت فى ظلمة غرفتهما،
عاليا: بعدك واعية حبيبتى؟ شو بك؟
حسناء: مفيش يا عاليا. قلقت بس شوية و قومت أصلى
قيام الليل كالعادة و هشرب قهوتى و انام.
عاليا: طيب حبيبتى. انتى ما فيكى شى؟ حسيتك قلقانة
!
حسناء: قلقانة على أولادى بس.
اعتدلت عاليا بسريرها و قالت لحسناء فى عتمة
غرفتهما الصغيرة ذات السريرين و الكومود الواحد،
عاليا: اذكرى ربك حبيبتى. ان شاء الله الحال بيروق
و اولادك بيصيروا بخير. الله معن. انتى تركتين مع ربن و مع الله ما فى حدا بيضيع
أبدا.
حسناء: (بصوت مخنوق على أثر عبرة مرقت على وجنتها)
صح كلامك يا عاليا. استغفر الله العظيم من كل ذنب.
انا هحاول انام علشان دوام الصبح. مش عايزين
المديرة تدينا كلمتين فى جنابنا و لا تخصم
لنا.
عاليا: (تعود لوضع النوم ساحبةً غطاءها فوقها مرة
أخرى) أى و الله حبيبتى. يقصف عمرا العجوز. يادوب ننام مشان نقوم نحضر أواعينا و
نكون جاهزين ع ميعاد الباص. لا تفكرى فى شى.. تصبحى على خير حبيبتى.
حسناء: و انتى من اهل الخير يا عاليا.
ترشف حسناء قهوتها ثم تسحب غطاءها و تغمض عينيها
على أمل ان ينقذها النوم من الفِكر و القلق. تتمتم آية الكرسى راجية من الله ان
ترى أولادها فى أحلامها ليخف حمل قلبها
الذى ثقلت همومه من عناء الذكريات تارة و قساوة الغربة تارة أخرى. و تنام.
____________________________________________________
بقلم: نهى حجاج
تاريخ: 29 يناير 2017