Sunday 23 July 2017

نحن لا نتحمل الألم



نحن لا نتحمل الألم

تناولت "ف" آخر حبة مُسَكِن فى حقيبتها لتهدئ آلام الصداع المزمن الذى يلاحقها. ابتلعت الحبة الصغيرة و شربت بعض الماء و ظلت صامتة لعدة ثوانٍ فى انتظار أن  يظهر مفعول المُسكِن. جال بخاطرها و هى فى انتظار أن تعود لحالتها الطبيعية بدون آلام الصداع المزعجة سؤال عابر تلته أسئلة أخرى: كيف كان أجداد اجدادنا يواجهون إحساس الألم قبل اختراع المسكنات و الأدوية العلاجية التى تبرئ الأمراض المسببة للألم ذاته؟  هل كانوا أقوى منَا أو أكثر تحملاً؟ أم أن ما يؤلمهم لم يكن هو نفس الذى يؤلمنا؟ الأمراض واحدة و الأوجاع تظل أوجاعاً و لكن هل كان البشر بالأمس غير اليوم؟ هل كانوا يتحملون الألم أفضل منَا؟
حدثت نفسها أن ربما كانت لهم علاجاتهم الخاصة بهم و بزمانهم، مثل الأعشاب و خلطات العطار أو حتى تمائم سحرية و أحجبة خزعبلية يسطر ما بها من طلاسم أناس مباركون لهم جلال و سطوة على ممالك أخرى لا نعلم عنها شيئا و لا نراها.
ابتسمت ابتسامة عابرة و تمتمت: " يالهوى... سحر بقى و خزعبلات.. الصداع ده بيجيب حاجات غريبة فى دماغ الواحد." ضحكت ضحكة قصيرة ثم أمسكت رأسها الذى لم يكن قد برأ تماما من الصداع و إن كان  قد بدأ يشعر بشئ من الراحة من ذلك الألم المقيت.
"الحمد لله"
شكرت "ف" الله على نعمة المسكنات و الدواء، فبدون تلك العلاجات كيف كانت حياتها ستبدو اليوم! عالمنا الآن عالم سريع الخطى، ثقيل الأعباء و بدون تلك العلاجات كيف يمكننا أن ننجز شيئاً فى عالم ينتظر منا كل يوم الكثير و الكثير؟ نحن نستيقظ فى الغالب على موعد عمل او دراسة، ثم نذهب إليها فنجد من ينتظر منا الجد و العمل و الإنجاز و التحصيل والتفانى، ثم ننتهى من أشغالنا فنذهب إلى بيوتنا حاملين أشياءا اشتريناها فى الطريق و نحمل هموماً اكثر بعضها يرتبط بما تركناه فى العمل أو مكان الدرس و البعض الآخر يرتبط بما نحن على وشك أن نلقاه فى بيوتنا. أبواب البيوت تخفى الكثير و نوافذها لا تكشف أكثر مما تحفظ.
تنهدت "ف" و هى تصعد سلم المنزل. لم يعد رأسها يؤلمها و لكنها مجهدة. كانت تحمل بعض الخضروات و كيس أرز و زجاجة مياة غازية من الحجم العائلى. هى تريد أن تصنع طعام الغذاء بسرعة كى تنهى باقى أعمال المنزل على عجالة قبل أن ياتى زوجها من عمله. و فى تلك الأثناء تستقبل أبناءها لدى عودتهم من المدرسة و تطعمهم و تبدأ معهم فى تفريغ حقائب المدرسة المتخمة بالكتب و بقايا الطعام و ملابس الألعاب... و غير ذلك. و فى الوقت الذى يبدءون فيه الاستذكار تكون هى فى المطبخ تعد لزوجها طعام الغداء. تذهب بسرعة إلى الأولاد لتتابع تقدمهم فيما يفعلون و توبخ أحدهم- أو ربما كلهم- على عدم الالتفات لما بين يديه وعلى استهتاره بالدراسة، ثم تبدأ فى مراجعة الواجبات سطراً سطراً و تسميع الأناشد و النظريات و نصوص الدين و الأدب لكل طفل على حدىً. يرتاح زوجها فى تلك الأثناء من تعب اليوم، يغيب بجسده عن أسرته الصغيرة بضع ساعات يشحن فيها طاقته للنزول مساءاً على القهوة التى لا يعود منها إلا بعد منتصف الليل و هو منتشٍ من شرب الشيشة و لعب أدوار الطاولة. و لكن صوت "شخيره" لا يغادر زوجته و اطفاله وقت الدراسة ووقت نومهم. صار صوت شخيره العالى مثل الموسيقى الخلفية التى يمثلون فى حضرتها أدوارهم اليومية المعتادة. و فى الليل يكون الأطفال قد ناموا قبل والدهم بالفعل فى الغرفة المجاورة فلا يزعجهم شخيره فى شئ. أما "ف" يبدأ صداعها الليلى فتغفو هنيهةً و تستيقظ على صوت شخير زوجها بعدها، و تظل على تلك الحال حتى الصباح. هى دائما تستيقظ قبل أن يخبرها المنبه البغيض بضرورة الاستيقاظ برنته المزعجة. كل يوم تنظر إليه بعين يملؤها الغضب و الحزن و التعب و عدم الاكتراث. سوف استيقظ و أبدأ يوماً جديداً و شقاءاً جديداً  و صداعاً جديداً...
"صداع... برشام الصداع خلص امبارح و لازم اشترى قبل ما اروح الشغل"  تحدث "ف" نفسها بذلك قبل أن تنهض مسرعة لتفعل كل شئٍ فعلته بالأمس، بل كل شئ فعلته على مدار الخمسة عشر عاماً السابقة فى حياتها تقريباً منذ أن تزوجت و أنجبت. أصبحت تتحرك بشكل أوتوماتيكى و أحيانا بدون وعى. إنه الألم فقط الذى يذكرها أنها مازالت إنساناً. و حتى ذلك الألم الذى يشعرها أن لها بدناً له حق عليها تحاول دائما أن تسكته و أن تسيطر عليه بالمسكنات. إنها لا تستطيع ان تتحمل أن تشعر بذلك الألم فذلك سوف يجعلها ترغب فى أن تستريح و أن تترك روتينها المهلك و أن  تبتعد قليلا عن زوجها و عن أولادها برغم حبها لهم، و إدراكها بمدى احتياجهم له. كيف تبتعد؟ كيف تترك؟ كيف تستريح؟ كى تخرس تلك الأسئلة داخل رأسها المتعب تحرص دائما على أن تخرس الألم داخلها.
فى الصيدلية القريبة من محل عملها، خاطبت الشاب العشرينى  الذى اعتاد رؤيتها كل أسبوع أو أسبوعين على الأكثر:
" من فضلك عايزة علبة كيتوفان .. كبسول... اتفضل... شكراً."
وضعت "ف" علبة المسكن داخل حقيبتها بعد ان اطمأنت لوجودها معها، و توجهت إلى مقر عملها القريب من الصيدلية بعد أن ادركت أنه ليس لها غير أن تستمرعلى ما هى عليه، و بعد أن تيقنت أنها ستتمكن من ان تكبح ذلك الالم داخلها بالمسكن، الألم الذى يحرك داخلنا ثورة الغضب و الانتقام للنفس و الجسد. لقد أدركت بعد كل تلك السنوات انها لا تستطيع أن تتحمل ثمن ان تتألم و أن تشعر، فنحن لا نتحمل الألم.

                                               ###

نهى حجاج
23 يوليو 2017

#Noha_Haggag
#نهى_حجاج


No comments:

Post a Comment