Thursday 27 October 2016

فتِش عن الرجل (1)




شعرت بغصة فى حلقها و هى ترشف كوب من الشاى صنعته على عجالة قبل ان تجلس امام مكتب خشبى عليه كومة من أوراق امتحانات لا أول لها و لا أخر.  نعم، هى مدرسة. تعمل فى إحدى المدارس الحكومية ذات السمعة الطيبة. دوام واحد و يوم كامل للطلاب المتميزون. تقع المدرسة فى منطقة هادئة بإحدى أحياء القاهرة. لم يزعجها أى شئ حولها، لا الأوراق اللامتناهية العدد و لا رداءة نوع الشاى الذى ترتشفه على مضض، و لا حتى انها فى آخر شهر مايو و هى على "الحميد المجيد" فى انتظار راتب الشهر حتى تتنفس مرة أخرى. الغصة كان منبعها ذكرى قديمة. ليست قديمة جدا و ان كانت قد أودعتها فى غياهب عقلها الباطن حتى أصبحت شبه منسية. انها تجدها حاضرة فقط فى أوقات وحدتها فى أغلب الحالات. و قد يكن حولها بعض الناس او الكثير منهم فى مواقف مختلفة  فتلمح أحدا يشبهه فتتذكر. منذ خمس سنوات أعطت قلبها له و شعرت بحلاوة الدنيا التى لم تشعر يوما ان لها حلاوةً ابدا و لم تجد لها أى جانب إيجابى قط. هى ليست متشائمة بطبيعتها و لكن قد تكون تقلبات الدهر و نواكبه هى التى أكسبتها تلك الجدية الزائدة و أطفأت من وجهها ذلك النور القديم. القديم قدم حبها فى أحراش ذكرياتها الدفينة.
قبل خمس سنوات، كانت ضحكتها تثير فى النفوس حالة من السعادة و الرغبة فى الابتسام و مشاركتها اسباب الفرح. فى يوم ما كانت لا تعتل للدنيا هما برغم أشياء كثيرة واجهتها  على صغر سنها. منذ خمس سنوات كانت والدتها مريضة مرضا صعبا و كانت على وشك الدخول فى إجراءات طويلة و مراحل معقدة من علاج ذلك المرض الفتاك.
قابلته و هى متوجهة بأمها فى يوم ما إلى مركز علاج الأورام حيث كان مقررا لوالدتها تنازل جرعة الكيماوى التى حددها لها الطبيب بعد الجراحة. كانت توقف سيارة أجرة حتى يتسنى لهما الذهاب بسرعة و بدون ان تتعب والدتها فى المواصلات العامة. كانت تدور فى رأسها أشياء كثيرة بداية من حزنها على والدتها و الخوف من المجهول الذى ينتظرها فى رحلة العلاج و ترقب الألم الذى ستعانى منه أمها بعد تناول جرعة الدواء السام و الذى يمتد ألمه لمدة أسبوع أو أكثر بعد انتهاء الزيارة. كان هو سائق السيارة الأجرة. شاب فى الخامسة و العشرين من عمره، يكبرها بعامين فقط. عرف منها و من والدتها تفاصيل المشوار الذى أخذهما إليه و تعاطف جدا مع الموقف. و كان فى أشد حالات الاندهاش بسبب البسمة و الدفئ فى صوتها برغم ما تمر به من ظروف مرض والدتها. أحبها من أول لقاء. نعم أحبها لا يمكن إنكار ذلك. و ان كان ما حدث بعد ذلك ينافى ذلك المنطق ان كان فى الحب منطق.

لم يكتفى بتوصيلهما للمركز و لكن وعدهما ان يكون فى الانتظار بعد تناول جرعة الكيماوى و أعطى لها رقم هاتفه الخلوى. و بالفعل وجدته عند خروجهما من المركز. كان يريد ان يعرف عنوانها بشياكة من خلال تلك اللفتة انسانية. و قد فعل.

و فى سرعة كانت تبشر بخير و فرح كبير خطبها بعد ان زارهما هو ووالدته. عرف انها يتيمة الأب. و هى عرفت انه خريج كلية التجارة و يعمل على التاكسى لتحسن دخله. ابن ناس، محترم، لا يعيبه شئ، بل يزينه حبه لها.
تمت الخطبة فى نطاق أسرى ضيق لظروف مرض الوالدة التى تحسنت حالتها مع الوقت بفضل رب يعلم انه ليس لتك الفتاة بعد أمها شئ تعيش لأجله. و زاد الفضل وقتها بدخول الحب حياتها الى حياتها. حب ملأ روحها سلاما و قوة و شجاعة فى مواجهة الأيام.

ماذا حدث؟ و لماذا حدث؟ و كيف حدث؟

هى لا تدرى أى شئ. أحيانا تشعر أنها ليست تلك الفتاة التى عاشت ذلك الجرح. تشعر انها و تلك الفتاة شخصان منفصلان تمام الانفصال. كذلك هو. الشخص الذى أنهت علاقتها به ليس هو نفس ذاك الشخص الذى انتظرها مع والدتها أمام المركز. هل يعقل ان يتبدل  الإنسان بهذه الطريقة؟ و أن يتغير إلى حد الاختلاف كلية؟

هل هى الظروف المادية التى بدلت كلامه الحنون الى شخط و نطر؟ ام هى ضغوط الحياة و العمل التى أنسته حبه الجم لها؟ ام والدته التى كانت تغير من حبه لها كطفلة تمقت ان يلعب أحد بدميتها؟؟
الأسئلة فى رأسها كثيرة جدا ... أو كانت كثيرة جدا، فالآن هى لا تسأل. هى "الجديدة" مستسلمة للواقع و لا تفكر حتى ان كانت راضية ام ساخطة، سعيدة أم حزينة.

كل ما تعرفه انه تغير و انه لم يعد هو و أنهما لم يعودا معا للأبد.

تذكرت آخر لقاء بينهما. هى طلبت منه اللقاء. جلسا فى كافيه هادئ و بدأت هى الكلام كما أنهاه هو.
بدأت بتساؤلات و انتهى هو بقرارت. أخبرته انها مازالت تحبه وانها على استعداد لانتظاره العمر كله ان كانت ظروفه لا تسمح بالزواج فى الوقت الحالى فكان رده فاترا غليظا "انا لا أشعر بالاتزان حاليا، ظروفى ملخبطة و لا أستطيع التركيز فى الحب و الكلام ده"
أى كلام كان يقصد؟ كلامه ووعوده مثلا؟ أحلامه التى جعلت هى منها كتابا مقدسا فى فؤادها حفظته عن ظهر قلب! أم معسول قوله فى مدحها و حبها الذى انقلب هجاءا قبل الفراق؟

لم يعد هو... و كان يجب ان تتغير هى. فهى ليست ذلك النوع من البنات صاحبات الجلد السميك اللاتى يتقبلن المهانة و إلغاء كرامتهن فور الدخول فى قصة حب مع رجل كل مقومات رجولته كلمة "ذكر" فى بطاقة هويته.

هى لم تكن تسعى ل"راجل و السلام"، بل كانت تريد أبا يعوضها فقدان الأب و حبيبا يعطى بقدر ما يأخذ، و أنيسا يطمئنها ان صارعتها الأيام.

"لم يكن اختيارا صحيحا" هذا ما حدثت به نفسها. كان يبدو وقتها هو الاختيار الأمثل. كان يرتدى قناعا زائفا من الرجولة المصطنعة. رجل متحمل للمسئولية يعمل و يكدح و يعتمد على نفسه. لم تكن تعلم انه "ابن امه" قطعا، او انه كاذب، أخفى عنها ديونه الكثيرة التى صارحها بها بعد فوات الأوان، و لا انه خائن، يتكلم معها عن الحب الأسطورى فى التليفون أو ترتجف أنامله عندما يمسك يدها او يتجرأ لدخول البيت من بابه ليخطبها بينما فى نفس الوقت على علاقة بغيرها.

عندما انكشف كل ذلك أمامها تعقلت كعادتها و لم تهدم المعبد على رأس الجميع فلديها أم مريضة تخاف عليها أكثر مما تخاف على نفسها. فى الوقت الذى كان قلبها مشطورا و محطما لم ترد ان تكسر قلب والدتها التى فرحت لخطبتها أى فرح و سعدت بها أبلغ سعادة. كان ذلك سبب لقائها به تلك المرة الأخيرة. كانت تحاول أن تنقذ ما يمكن إنقاذه. و لم تقدر. كان عنفه معها أقوى من سماحتها و كانت قسوته أشد من لينها، و كان بغضه المفاجئ هو القشة التى كسرت ظهر البعير. و انتهى كل شئ

فوجئت بدمعة نزلت من مقلتها على إحدى الأوراق التى تصححها. مسحتها على عجالة حتى لا يدخل أحد و يراها و قد اغرورقت عيناها بالدموع. نزلت تلك الدمعة لتنبهها ان تفيق و ترجع الدفتر القديم الى ركنه البعيد فى باطن عقلها.
حيث مكانه الطبيعى. و حيث ينبغى ان يكون.
###

 نهى حجاج



2 comments:

  1. ما شاء الله مبدعة في كتاباتك واسلوبك وسردك دايما يا نهي
    تسلم أيديكي .. في انتظار البقية بإذن الله 😍

    ReplyDelete
  2. دايما متابع و بتبسطنى بتعليقك و كلامك اللى بيشجعنى أكون أفضل. ان شاء الله هستمر و ما اتحرمش من متابعتك و كلامك الجميل ده.

    ReplyDelete